قراءةٌ في خطاباتِ قائد الثورة.. النسجُ لا التكويم
21 سبتمبر / صلاح الدكاك
على النقيضِ من الذهنيّةِ الزُّقاقيةِ التي سَادَت مطلعَ العقدِ الأخيرِ من الأَلْفِيةِ الثالثةِ ودَمَــغَت الخطابَ الفــكريَّ والسياسيَّ في المنطقة العربيّةِ بسماتها فدرجت جُـلُّ – إنْ لم يكن كُلُّ التياراتِ اليسارية والقومية – على مقارَبةِ الصراعِ بالانهماكِ في جُزئياتِهِ، بَرَزَتْ ـ في المقابل حَـرّكاتٌ وأحزابٌ انفردت بمقارباتها الجذرية للصراع فكراً وموقفاً؛ وبالنتيجة فإنها باتت عُـرضةً لتلقي جُلِّ نقمة عَالِمِ الأحادية القطبية بوصفها تجديفاً معادياً وبالضدّ لوجهة مركب اليقينيات الأَمريكية المعولمة المبحر صوب مرفأ “نهاية التأريخ”.
تأويلُ الصراعِ بالجزئيات كان الرَّحْــمَ المحليَّ الذي استولدته الولاياتُ المتحدةُ، كُلُّ هذه المشاريعِ التفتيتيةِ وَكُلُّ هذه المسوخِ التي تتخنْدَقُ على تخوم زقاقيةٍ مناطقية طائفية نازية وتتولى تقويضَ الدول والمجتمعات في منطقتنا العربيّة تحديداً ـ بالإنابةِ عن مركَزِ الأُحادية القطبية، فيما تخلَّقت أنصع التواريخ وأَكْـثَـرها خصباً، في فضاء المقاربات الجذرية للصراع، ليس بدءاً بتموز (نصر العرب)، ولا انتهاءً بملحمتي الصُّــمُــوْد السوري اليَمَني في مجابهة أبشعِ ترسانات العُـدْوَان الكوني، والذي يدين له العالم بالفضل في الانحسار المتسارع لمشروع تحويل الكرة الأَرْضية إلَى كوكب للرخويات، تحت جنازير بلدوزر النيوليبرالية الأَمريكية المعولمة.
إلى فضاءِ هذه المقارَبات الجذرية على مستوى الفكر والموقف، تنتمي خطاباتُ السَّـيِّـدِ عبدِالملك الحوثي، والتي تمثِّلُ استمراراً لنهرِ مقارَبات الشهيد القائد السَّـيِّـد حسين بدر الدين، في أثرى منعطفاتِه كَثافةً ودَفْـــقاً، حيثُ التحدّيات التي استشرف الشهيدُ القائدُ باكراً أطوارَها المستقبلية عبرَ استقراء مؤشراتِها الأولية، باتت عيَن اليقين اليومَ وتمظهرت على نحو شديدِ السفور في مسرح الوقائع الموضوعية.
مقارَباتٌ لا تُغضِي بَصَرَها عن المآلاتِ في ربطها بين معطيات اللحظة المادية ماضياً وحاضراً، ولا تتوانى عن خَوْضِ غمار تلك المآلات بجهوزية مشفوعة بإيمانٍ راسخٍ وفدائية تصلُ حَـدَّ نُكرانِ الذات وحكمة مستبصرة تجتلي الأصوبَ بين الخيارات أياً كانت تبعاتُه عليها، بمنأىً عن البراغماتية وفَنِّ الممكن.. (إن الشرَّ والطغيانَ والهمَجيةَ لا يمكنُ أن يُدفَعَ بطريقةِ هابيل..).
هكذا فإن خطاباتِ السَّـيِّـد الناجمة عن جذرية المقاربة، لا تتفاجأ ـ وإن كانت تتألم ـ إزاء انتقال الصراع من طور أقل حدة إلَى طور أعلى حِدَّة، من حيث كُلفته على العامة، إذ أنها لا تنطلقُ في استشرافها لأُفُق الصراع البعيد، من رؤية عاطفية قائمة على سوء الظن بـ(الآخر) العدو، أَوْ على حُسن الظن به، وإنما من إيمانٍ بصوابيةِ موقفها إزائه، وجهوزيتها لمواجهة ردود فعله بالمتأتي من إِمْـكَـانات مادية، في ظلِّ يقين صلبٍ بأن مطلق َالقوة لله وبالله وأن النصرَ في التزامِ نواميسه على طريق مقارعة الاستكبار والانحياز للمستضعفين، أياً كانت التضحياتُ فإنها (تضحياتٌ مثمرةٌ وإيجابية)، فالبديلُ هو (الاستكانةُ والخضوعُ والتغاضي الأعمى) الذي لا يُعفي أصحابَه من وخيمِ التبعات، قَدْرَ ما يضاعِفُ من حالة (الإذلال والهوان والشقاء والعناء).
غير أن البصيرةَ المؤمنةَ بمطلق قوَّةِ الله إذْ تخلعُ كُلّ خشية قد تنتابُها إزاءَ كُلّ قوةٍ عدا قوة الله، وتخلعُ كُلّ تعويل على سواه، فإنها لا تهدرُ سياقَ التراكم القيمي البشري المحفور بفطرة إنْسَـانية سليمة ونقية، ومن هذا المنطلق فإنها تستنهضُ نُصرةَ وتضامُنَ كُلّ شرفاء العالَمِ وأحراره، في مواجهةِ جبروت وطغيان قوى استكبار، لا يستهدفُ اليَمَنَ بالخصوص وإنما عموم شعوب الأَرْض، وهي ـ أَي هذه المقارَبة المستبصِرة المؤمنة ـ إذ تخاطبُ الحريّةَ كفطرة في الشعوب، لا تغفل إقامة الحجة على المنظمات الدولية (الأُمَـمية مجازاً) والتي تُعْنَى في واجهاتِهَا بالسلم والأمن الدوليين والاتفاقيات والمواثيق المنظمة للخلافات والضامنة لسيادة واستقلال الدول المنضوية تحتها وكذلك المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنْسَـان.
(المطلوبُ من كُلِّ الأحرارِ في العالم.. من الشعوب الحُرَّةِ هو التَّضَامُنُ مَعَ هَذَا الشَّـعْـبِ الذي تكالبت عليه الأنظمةُ المسحورةُ بالمال والتي أرخصت جيوشَها أمامه).
(لأننا في مواجَهةِ قوى شر هي شر على كُلِّ العالم وضررها يطال كُلّ العالم).
إن استعصاءَ هذه المقاربة الجذرية ـ في خطاباتِ السَّـيِّـد عبدالملك الحوثي على الوقوع في فخ تأويل الصراع بالجزئيات، وربطها الموضوعي بين حلقات العُـدْوَان محلياً وإقليمياً ودولياً، بالمركَز المشغِّل لمجمِل منظومة الهيمنة والاستكبار، في توصيفها لطبيعة الآخر العدو مشروعاً وآلية، فإنها ـ بالنتيجة ـ ترقى بالطاقات الاجتماعية الخلاقة للشعب وللأمة، من حضيضِ حلقات التدمير الذاتي المفرغة المزنزنة بأنماط إثنية طائفية جهوية مناطقية مغلقة، يفصِّلُها العدو لها ويزج بها فيها، إلَى مضمار صراع قيمي مفتوح ومثمر يفرز أنصاره وأصدقاءه بمنوالٍ أُمَـميٍّ قِيَمِيٍّ يستهدفُ تخليقَ لُحمةٍ إنْسَـانيةٍ قوامها اصطفاف نظراء القهر والاستضعاف والحرمان دون عوائق اللون والجنس والطائفة، في مواجهة قوى الاستغلال والهيمنة والاستكبار الملتحمة هي الأُخْـرَى دولياً في منظومة كونية متعدية للأديان والأجناس والأعراق بناظم الاستحواذ على الخيرات المادية لشعوب العالم واستعباد البشر والقفز على كُلّ النواميس الإلهية والقيم الإنْسَـانية.. (موقفنا لا يستهدف الشَّـعْـب في الشقيقة الكبرى.. الموقف من النظام الذي بغى واعتدى وجار وظلم وتكبر وتجبُّر).
على مَحَكِّ هذا الفَرْزِ القِيَمِي إلَى ظالمٍ ومظلومٍ ومعتدٍ ومُعتدَىً عليه، تجري تسميةُ أطراف الصراع أعداءً أَوْ إخوةً ونُظَرَاءَ في المظلومية والموقف، دون انزلاق في حضيض صدام الأنماط المغلقة والمستلبة لصالح رؤية ومرامي عدوها، والممتثلة بالقصور الذاتي – لوضعها – لما يرسمه لها من أدوار سلفاً.. بوصفها (دُمَىً وأدواتٍ تُنَفِّذُ رَغباتِ القوى الكبرى التي تسعى لتدمير هذه البلدان واحتلالها).
إنَّ القيمةَ الجوهريةَ في هذه المقاربة، ليست في سبكها الخطابي الجزل والرنّان، وإنما في انتفاء الفجوة بين الفكر والممارسة، وبين القول والعمل، وبين المُثُلِ المجردّة والسلوك المجسّد لها، فخطاباتُ السَّـيِّـد عبدالملك كقائد للمسيرة القرآنية وللثورة لا تصدُرُ عن أكاديمي يزاول التقميشَ والقَضْمَ في رُطُوبَةِ دهاليز المكتبات، ولا عن منصة سجالات سياسيّة تقليدية مترفة، حيث الظفر بدرجة علمية مشفوعة بعلاوة، والظفر في جولة انتخابية، هو السقفُ الأعلى المستهدَفُ تحقيقُه عبرَ سياق من الأحابيل اللُّغوية المحشودة.
وإنما هي خطاباتٌ اختمرت ولا تزالُ تختمرُ في خضم التحدّيات الموضوعية المباشرة وغير المباشرة والمنظورة وغير المنظورة بعد، على مسرحِ الواقع قُطرياً وإقليمياً ودولياً، وتتمظهرُ مغايرتُها القِيَمِيّةُ من كُونِها خطاباٍت رافضةً لاختلالات الواقع ومجابهة لانحرافاته، على النقيض للخطابات السياسيّة السائدة والمتكيِّفة مع اختلالات الواقع والمتصالحة مع انحرافاته بل والمستثمرة في وحل اختلالاته وانحرافاته والمتكسبة منها..
فحيث يقولُ أَحَـدُ أبرز قيادات اليسار في اليَمَن في إحدى مقارَبَاته عام 2014م: (لا إِمْـكَـانيةَ لبناء الدولة المدنية التي ننشُدُها إلّا مع المجتمع الدولي وبالمجتمع الدولي) محذّراً ـ في هذا السياق المتخم بالإذعان والاستلاب ـ من التعويل على (روسيا) التي جَزَمَ حينها بأنها (ستقايضُ أَمريكا بسوريا مقابلَ أوكرانيا)، وبناءً على هذا الحث التعويلي المتسول والذليل، فإن المجتمعُ الدوليُّ لا يعودُ سوى أَمريكا القائمة بذاتها ولذاتها في ثبات سرمدي لا تطالها عوامل التعرية ولا تثلم مطلق قدرتها نسبية الزمان والمكان، والتي يعتسف الكاتب في سبيل (تأليهها) كُلّ منطق ويتوسل كُلّ حيلة بلاغية وَابتذال فلسفي!
في المقابل فإن المقارَبةَ القِيَمِيّة الناظمة لخطاباتِ سيد الثورة، لا يعوزُها أن تستدرجَ المتلقي بأحابيلَ فلسفيةٍ وبلاغيةٍ لتهرسَ دماغَه في فضاءِ التجريد بوصفه حالةً مستهدَفةً مرحلياً؛ وإنما تأخُذُ بيده إلَى واقع حافلٍ بالبراهين لتصلَ معه إلَى ما تريدُ أن توصلَه إلَـيْه بوصفه شريكاً في المسؤولية وشريكاً في المصير.
(ما الذي قدمه المجتمعُ الدوليُّ لشعبنا الفلسطيني.. ما الذي قدّمته الأُمَـمُ المتحدةُ للقضية الفلسطينية خلالَ سبعين عاماً.. لقد وقفت هذه المنظمةُ على الدوام في صَفِّ الجلاد ضِدَّ الضحية ولم يحدُثْ أن وقفت مع الضحية يوماً..).. خلاصةٌ كهذه لا تعوزُهَا البراهينُ التي هي من الوفرة بحيث لا يسع (بان كي مون) نفسُه إلّا التسليم بصدقية الاستخلاص القائم عليها عوضاً عن مُـتَـلَـقٍّ عربي مسلم مثخنٍ بخذلان هذه المنظمة له تأريخياً وتواطؤها مع جلاديه، من (فلسطين 48) حتى (اليَمَن 2015).
وإذ تنضجُ قناعاتُ الملتقى تحتَ لهب براهينَ موضوعيةٍ ومادية لا يخمد أُوَارُها، فإنه يكونُ معنياً باتخاذِ موقف عملي لإنقاذ حقه المستلَب أَوْ رفع المظلومية الواقعة عليه أَوْ دَرْءِ الأخطار الوشيكة عن نفسه ومجتمعه وبلده وشعبه وأمته، بمنأىً عن التعويل على نجدَةِ قُوَّةٍ ما عدا قوة إيمانه بعدالة قضيته وبمشروعيتها وجدوى التضحية في سبيلها إنفاذاً لوعدِ الله له بالنصرة؛ لأنه لم يَخْرُجْ (أَشِراً وَلَا بَطِراً، ولا عن تَرَفِ حال ولا عن نزوة عابرة ولا معتدياً على أحد..).
غير أن هناك مَن تنضجُ قناعاتُه ولا ينضَجُ استعدادُه لترجمةِ هذه القناعات عملاً وبذلاً وتضحية إزاء قضية ما.
إنَّ وعيَ هذه المقاربة القيمية بهذه الحقيقة، على مستوى ردّات الفعل البشرية، ولا ينفي نجاعتها، فهي لا تستهدفُ التحشيدَ الكمي، ولا تسترفد مدداً لا غنىً لها عنه، قدر ما تسعى لإقامة الحجة على واقعها ومحيطها الاجتماعي، دون نكوصٍ عن مقتضيات المجابهة لشُحَّـة العدد والعتاد وضآلة الرفد، أيّاً كانت الكلفة ومهما بلغ خذلان محيطها.. (الحق واضح وأبلج والباطل لجلج، ولذلك لن نبالي أبداً بموقف أَي طرف يريد أن يساند أولئك المجرمين القَتَلة.. من يسعى ليوفر غطاءً وحماية تحت عنوان مناطقي أَوْ سياسي، فلن نباليَ به أبداً..).. (لن نقبل كشعب يمني أن نقتل وأن يعمل الآخرون على إماتتنا جوعاً وحصاراً، ونجلس مكتوفي الأيدي..).. (في اليَمَن هذا غير وارد..).. (شعبُنا يراهنُ على الله القوي العزيز ملك السموات والأَرْض، بقدر ما تثقون أنتم في أَمريكا وغير أَمريكا..).
(قرارُ مجلس الأمن غيرُ مفاجئ؛ لأنه لم يقفْ يوماً في صَفِّ المستضعفين.. وحقنا في الرد أقرته شريعة السماء وقوانين الأَرْض والعرف الإنْسَـاني).
على هذا المنوالِ من الثقة والتفنيد وإقامة الحُــجَّة والنهوض بالمسؤولية والاستعداد غير المتهيب ولا الضنين للتضحية بغير مَنٍّ ولا الطمع في مكسب مرحلي زائل..
على هذا المنوال تمضي خطاباتُ سَيِّــدِ الثورة التي تتصفَّحُ الواقعَ كِتاباً منظوراً وتسمي الأشياءَ بأسمائها دونَ حاجة للأحاجي اللُّغوية والسياسيّة وركوب خَيْلِ المجاز.
“النسْجُ لا التكويم”
(إن رضا الضحيةِ بموقعِها في التراتبية الاجتماعية هو العدالة، ومكافأتها هو السكوت عنها)..
هكذا يلخِّص (توماس هوبز) ـ كأحدِ أبرزِ فلاسفة الليبرالية ـ مفهوم العدالة في كنف جبروت التقانة والسوق وهيمنة الرأسمالية..
ويجسّدُ (هوبز) هذه التراتبية في صورة عِصابة سطو وسرقة يرأسها رجلٌ أبيضُ ويتولى التخطيطَ لعملياتها مستشارون بيضٌ، فيما يقومُ بالتنفيذ رجلٌ أسودُ ويحصل في نهاية المطاف على ـ أدنى الأنصبة عن دور هو الأخطر بين الأدوار الموكولة لأفراد العصابة، وعوضاً عن أن يسْعَى لمساواته بالآخرين من حيث المردود، أَوْ يطالب بتدوير المهام والمواقع بما يجعله نظيراً للأفراد الآخرين في تقاسم الخطر والريع؛ فإنه يظهر الرضا ويكظم الغبنَ ويحتال فيحتفظُ لنفسِه بنسبةٍ ضئيلةٍ من المسروقات خلسة عن عيون العصابة.
والمفارَقَةُ هي أن زعيمَ العصابة يدركُ ذلك ويتغاضى، ولا يعاقبُه، إذ أن جوهرَ استثمارِ (الرأسمالية) التي تمثلُ “عصابة هوبز” معادِلاً موضوعياً لها؛ يكمنُ في ثبات سُلَّمِ التراتبية القائمة على كدح الأغلبية بناظم الإقرار المضمر بدونيتهم، لصالح رفاه القلة باستحقاق تفوقها الحضاري الناجم ـ بطبيعة الحال ـ عن احتكارها للتقانة والرساميل.
وعليه فـ(لا بأسَ على الثور الذي يحرُثُ ويحمِلُ الأعلاف، إذا ما التهم بعضَها خارجَ حصته)، كما يقول سياسي رأسمالي آخر..
إنَّ العدالةَ والحريّةَ والمساواةَ وحقوق الإنْسَـان ومقولات من قبيل (الأسرة الكونية المفتوحة والعالم قرية صغيرة والسوق الحرة)، التي باتت ـ عقب انتصار أَمريكا في الحرب الباردة ـ بمثابة محدّداتٍ أَسَـاسية تسحبُ نفسَها ـ بقوة ـ على نتاجاتِ النخب السياسيّة والاقتصادية والثقافة العربية، في تناوُلاتها للأحداثِ ومواقفها منها ومن جُملة القضايا والتحّديات في المنطقة العربية، والعالم.. هي محدّدات توهم بتجانس كوني ينتفي معه الصراع وتتلاشى أسيجة الخصوصيات القطرية والقومية وتتماهى الخرائط، ويغدو الثقلُ للأفراد العابرين للهويات والقيم المحلية بلوغاً لكونية قيمية افتراضية، قوامها كُلّ النخب التي انسلخت عن واقعها وآلام وآمال شعوبها، واعتنقت تلك المحددات ـ في مفهومها الأَمريكي ـ ديناً لإله لا شريكَ له اسمه الأُحادية القطبية.
إنَّ هذه الأُحاديةَ التي تسعى لأن تدمَغَ العالَمَ على اختلاف مشارِبِه وثقافاته ومصالحه، برؤيتها المعَبِّرة عن مصالِحِ مُلاَّك الاحتكارات الكبرى الحربية وغير الحربية، لا تريد ـ ولا ريب ـ تجانُساً عالمياً قائماً على تكافؤ فرص الحياة والندية الإنْسَـانية، وإنما تجانس يستلب الطاقات الحضارية الروحية والمادية لشعوب الأَرْض لصالح فلك الهيمنة الأَمريكية، بما يجعل الضحية تفكر وتتألم وتأمل وتنتج وتناضل داخل منظومة قيم الجلاد فتعمل بقصد وبغير قصد لتأبيد هيمنته بفعل (افتقارها لمشروعها الخاص)، كما يقولُ سيد الثورة.
إنَّ انتفاءَ الآخرِ النقيض ـ في تنوعه ـ على مستوى الصراع كما هو حال عالم الأُحادية القطبية لا يعني أن السلامَ بات سائداً على الأَرْض، قدر ما يعني أن العالمَ أصبحَ مستعبداً.
إن (امتلاكَ قوى الشر ـ أَمريكا وإسْـرَائيْل ـ إِمْـكَـاناٍت وقدراتٍ كبيرةً يمثِّلُ شَــراً على البشرية ونكبةً ومعاناةً للإنْسَـانية) في مقاربة سيد الثورة لموازين القوة في العالم، خلافاً لمقارَبات معظم النُّخَبِ العربية التي ترى في هذه الحيازة الحصرية للقوّة ضماناً للسلم العالمي وعصا كونيةً في وجه (الاستبداد والديكتاتورية).. عصا منحازةً لسيادة الديمقراطية وحقوق الإنْسَـان، ولا غرابة أن تغدو مؤازرة واستدعاء قوى الهيمنة الدولية من قبل ما تسمى النخبة للعُـدْوَان على شعبهم ووطنهم، كما في الحالتين اليَمَنية والسورية، كفاحاً أُمَـمياً ضد (الاستبداد) وتغدو خيانةُ الأَرْض والعِـــرْضِ (وجهة نظر، والاحتلال تحريراً ومؤازرة الاحتلال مقاومة).. كما لا غرابةَ أن يمتزجَ دمُ الصهيوني والسُّـعُـوْديّ واليَمَني والإماراتي في مضمارِ معركة واحدة، فالتجانُسُ على مبدأ نفي الصراع داخل بوتقة المفاهيم الأَمريكية هو الفيصل الذي (لا يبقي أَي كيان للأُمَّـــةِ فتكونُ الأَرْضُ للأعداء، للأَمريكي والإسْـرَائيْلي.. ويكونُ الإنْسَـانُ العربي أَوْ ما بقي منه مطوَّعاً لصالح الأعداء.. تقاتلُ به أَمريكا أَيَّ عدو لها في أَي قُطر من أقطار العالم سواء ضد الصين أَوْ ضد روسيا أَوْ أيَّة قوة منافسة لها..)، وفقاً لسيد الثورة.
إنَّ محوَ التنوُّعِ والخصوصيات وتجريف الأحادية القطبية الذي يطالُ أُمَـمَ وشعوبَ الأَرْض، وأمتنا العربية والإسْـلَامية على وجه الخصوص، ليس خطراً فحسَب على الأمة التي تستهدَفُ بهذا التجريف والمحو بل خطر تعيدُ أَمريكا تدويرَه لتضرِبَ به كُلَّ قوة منافسة لها وكل تكتل دولي يهدد الهيمنة القطبية الأحادية بالانحسار.. وإذ يسلّطُ سيدُ الثورة الضوءَ على التداعيات المستقبلية المعتمة وغير المنظورة للقرصنة الأَمريكية في شرقنا العربي والإسْـلَامي، على (روسيا والصين) ـ تحديداً ـ فإنه لا يستعطفُ مؤازرتهما للأمة في معركتِها لمناهِضة الهيمنة والاستهداف، وإنما يستنهضُ طاقةَ أمتِنا لريادة مشروعها الخاصِّ، مُسْتَشْرِفاً المآلاتِ الكارثيةَ للمنطقة والعالم في حال نكصت أمتُنا عن النهوض بمشروعها الخاص..
إن ثمة اليومَ (إسْـلَاماً زائفاً وديمقراطية زائفة).. إسْـلَام سُـعُـوْديّ وديمقراطية أَمريكية، هما في الحقيقة نتاجٌ لمعامل قوى الاستكبار والهيمنة العالمية ذاتها، في سعيها لتعبيدِ الشعوب واحتلالها وجدانياً وحضارياً وتأبيد استلابها لصالح عدوها.
إسْـلَامٌ يشرعِنُ للرضوخ والإذعان والهوان، والتشرذُمِ تحت مقاصلَ وسواطيرَ طائفيةٍ ومناطقيةٍ متصالحةٍ مع الصهيوأَمريكية ومحتربة فيما بينها، تقاتلُ في صَفِّ الاستكبار وضد المستضعفين، بالنقيض لجوهر الإسْـلَام القرآني المحمدي ومسلك الإمام الحسين والإمام زيد.
وديمقراطيةٌ لا تتورَّعُ عن تحشيد كُلّ عصابات الجريمة الدولية المنظمة وشذاذ الآفاق، وتفويج مسوخ (القاعدة وداعش)، في سعيها لقهر شعب ثار على جبروتها وأفلت من أنياب وصايتها، ورَفَض العبودية لها..
إنَّ المشروعَ الخَاصَّ للأُمَّةِ إذ يتحقّقُ من خلال مجابَهَة هذا التعبيدِ والاستلابِ لـ(إسْـلَامٍ سُـعُـوْديّ وديمقراطية أَمريكية) زائفين، فإنه لا يعود مشروعاً خاصاً على خلفيةِ قومية ودين الناهضين به، وإنما يغدو فضاءً أُمَـمياً مفتوحاً لاصطفاف كُلّ المستضعفين والمقهورين في واجهة الاستكبار على قاعدة (ولقد كرّمنا بني آدم)، وَ(الناسُ صنفان، أخٌ لك في الدِّيْنِ ونظير ٌلك في الإنْسَـانية).
أعتقدُ أخيراً.. أنَّ هذا التدرُّجَ الخلَّاقَ من فضاءِ الواقعِ القطريِّ إلَى الإقليمي إلَى الدولي، باحتذاءِ القيمة الفِطريةِ المشتركةِ للإنْسَـان على اختلافِ جنسِه ولونِه ومعتقدِه، وباستيعابِ مأزقِه الناجِمِ عن شعورٍ بضآلة الوزنِ والقيمةِ الاجتماعيةِ في كَنَف جَبَرُوتِ أُحادية قطبية قائمة على احتكار عوامل القوة والغلبة.
هذا التدرُّجُ الذي لا يَفقِدُ خصوصياتِه لدى ترقِّيه من طور إلَى طور في مخاطبته لواقعه وقراءته له، هو العمودُ الفقري الذي يجعلُ من خطاباتِ سيد الثورة نسجاً متعدياً لليومي والمحلي دون قطيعة معه، لا تكويماً يستفرغُ ثِقَلَ دلالاته في شرنقة اللحظة اليومية المحلية، كما ويمنحُه تأثيراً متصاعداً على مستوى كُلّ طور، يسحبُ نفسَه في صورةِ رُدُوْدِ الفعل التي تَعْقُبُ كُلَّ خطابٍ لدى الخصوم والأنصار، ولدى المراقبين الذين يأخُذون خطاباتِه ـ ولا ريبَ ـ على محمَلِ الجَدِّ تحليلاً واستخلاصاً لرسائلِها والمواقفِ العمليَّةِ المترتبةِ عليها.