مقالات

أمل دنقل.. الحزن الخلاق.. الصرخة العنيفة .. بقلم/ فؤاد عبدالقادر

21 سبتمبر || مقالات :

إنهم يقتلون الشعراء والخيول الأصيلة.. كلمات اخترتها بدقة وحماس من صلب مقال كتبته ونشرته في الثمانينات في مجلة الوطن الصادرة عن الاتحاد العام للمغتربين، وزارة المغتربين حالياً..
الموضوع كان يدور حول معاناة الشاعر الراحل أمل دنقل، وقد حاولت من خلال ما أسعفتني المعلومات آنذاك الكتابة عما يعانيه الشاعر والنهاية المحتومة التي توقعتها له جراء إصابته بالسرطان.. وقد وضعت مقارنة بينه وبين بدر شاكر السياب الذي عاش معاناة سياسية واقتصادية ومرضية جراء إصابته بمرض السل.. ما جعله يتنقل من طبيب إلى آخر ومن مستشفى في بغداد إلى مستشفى في بيروت.. إلى الأميري في الكويت، حيث طلع السر الإلهي فمات هناك.. الاثنان سقطا تحت وطأة المرض بعد كفاح مرير.. دفعا ثمن مواقفهما السياسية.. ووقعا تحت طائلة الحاجة.. مع ذلك لم يستسلما حتى أسلم كل منهما الروح..
هاجم المرض الخبيث أمل.. فدخل المستشفى ولم يكن يملك نقوداً وشعر بقرب النهاية..
أيها السادة لم يبق اختيار
سقط المهر من الإعياء
وانحلّت سيور العربة
ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة
وفي الظهر الجدر..
الحزن.. الحرية
يموت الشاعر جسداً وروحاً.. ويبقى الإبداع، تبقى أشعاره الجميلة، وحياته المدهشة بمعطياتها المختلفة.. انتصاراته وهزائمه.. أفراحه وأحزانه..
اليوم أعود إلى أمل دنقل الشاعر الذي أحدث بشعره ثورة في عملية التجديد في الشعر العربي المعاصر.. مخترقا بذلك الخطوط الحمراء.. شاعر صنعته المعاناة، فقد ولد مع العذاب حتى وفاته.. لكن هذا العذاب والحياة الصعبة التي عاشها لم تمنع أشعاره من أن تكون زاداً يومياً للفقراء ولكل الباحثين عن الحرية والعدل والمساواة، في طفولته أجريت له عملية جراحية في إحدى خصيتيه بسبب عيب فيها.. ولم تنجح العملية التي سببت له مع مرور الزمن السرطان وبالتحديد عند وصوله سن الأربعين..
الشعور بالحزن كان رفيقه الدائم والرفض الذي تجذر في نفسه جعله أكثر عنفوانا ومواجهة والتزاما بما يؤمن به.. كان يائسا وكان هذا اليأس دافعاً لقول الحقيقة التي يؤمن بها وبدون رتوش، إنها مواجهة الأمل الكاذب كما كان يراه..
لا تحلموا بعالم سعيد
فبعد كل قيصر يموت
قيصر جديد.
صرخة عنيفة وقاسية لكنها تحمل في طياتها الحقيقة التي يشعر بها الناس.. ولا يستطيعون أن يعبّروا عنها.
جاء أمل دنقل من صعيد مصر شاعراً لا يملك إلا الحقيقة، ليفتح الطريق أمام الجيل الجديد في الشعر المعاصر بعد صلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وكمال عمار، وفاروق شوشة، وأبو سنة، وغيرهم.. واستطاع بجدارة أن يصنع لنفسه مكانة أدبية وفنية وصوتاً مختلفا ومتطوراً ومتفرداً وذا عطاء.. الشعر والشعر فقط، من أجله ترك الوظيفة.. انغمس في الشعر..
ملك أم كتابة..
صاح بي صاحبي وهو يلقي بدرهمه في الهواء
ثم يلقفه
ملك أم كتابة
صحت فيه بدوري
فرفرف في مقلتيه الصبا والنجابة
وأجاب: (ملك )
دون أن يتلعثم أو يرتبك
وفتحت يدي كان نقش الكتابة
بارزا في صلابة
كان يعي تماما الثمن – ثمن اختياره الطريق
الذي سار به أو اختارته له الأقدار ..؟
أليس هو القائل : أنا لم أعرف لي عملا أو مهنة غير الشعر.. لم أصلح في وظيفة ولم أنفع في عمل آخر، وأخشى أن أتهم باستخدام الكلمات الكبيرة إذا قلت إنني كنت راهبا في محراب الشعر وحده.. ولقد اكتشفت الآن أن الفن والأدب على إطلاقهما لا يقبلان بغير هذه الرهبنة.
أنت لا تستطيع أن تكون موظفا وكاتبا أو صحفيا وشاعراً.. الكتابة موقف.. مثل.. أن تكون أو لا تكون..
وأنت تقرأ القصيدة -أي قصيدة- لأمل تشعر ببساطتها، لكن وما إن تشرع في قراءتها حتى تكتشف ذلك العمق والجمال فنياً ولغوياً وصوراً وبلاغة.. ووعياً بالواقع وما يحيط به..
في الفندق الذي نزلت فيه قبل عام..
شاركني الغرفة
فأغلق الشرفة
وعلَّق “السترة” فوق المشجب المقام
وعندما رأى كتاب “الحرب والسلام”
بين يدي.. أربد وجهه
ورف جفنه رفة
فغالب الرجفة
وقص عن صبية طارحها الغرام
وكان عائداً من الحرب.. بلا وسام.. فلم تطق ضعفه
ولم يجد حين صاحا
إلا بقايا الخمر والطعام
ثم روى حكاية عن الدم الحرام
الصحراء لم تطق رشفه
فظل فيها يشتكي ربيعه.. صيفه
وظل يروي القصص الحزينة.. الختام
حتى تلاشى وجهه
في سحب الدخان والكلام
وعندما تحشرج الصوت به.. وطالت الوقفة
أدرت رأسي عنه
حتى لا أرى دمعته العفة
ومن خلايا جسدي تفصد الحزن
وبلل المسام
وحين ظن أنني أنام
رأيته يخلع ساقه الصناعية في الظلام
مصدراً تنهيدة قد أحرقت جوفه
ألا يشعر القارئ هنا بعد قراءته القصيدة أن شيئا ما تحطم في داخله.. وأن حزنا يكبر في أعماقه.. ومساحة الألم والإحباط تتسع وتمتد إلى ما لا نهاية.
هكذا أمل دنقل وكأنه كان يقرأ وخلال إبحاره مع القصيدة معاناته وما يخبئه له المستقبل.. كان يقرأ أحزانه الخلاقة وكأنه نزيل الفندق الذي عاد من الحرب بلا وسام..
النكسة
كان بحق ربيع الغضب.. انتشر الحزن وخيم على كل شيء، لا بيت في مصر أو على مستوى الوطن العربي.. إلا ومسته النكبة.. وتباينت المواقف.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com